الشرق الأوسط- بين تداعيات غزة، التطبيع، وتطلعات التغيير

المؤلف: هشام جعفر11.02.2025
الشرق الأوسط- بين تداعيات غزة، التطبيع، وتطلعات التغيير

في خضم الحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز/يوليو 2006، صرحت وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك، كوندوليزا رايس، بأن آلام هذه الحرب ما هي إلا "الولادة المتعسرة لشرق أوسط جديد".

من الجدير بالذكر أنه في ذلك الوقت، أثار استغرابًا بالغًا أن الوزيرة الأمريكية لم تتحدث عن "الشرق الأوسط الكبير"، الذي أطلقه الرئيس بوش في عام 2002، ولا عن "الشرق الأوسط الموسع"، الذي اضطرت واشنطن إلى تبنيه في عام 2004 نتيجة للضغوط الأوروبية، بل استخدمت نفس التعبير الذي صاغته إسرائيل، وتحديدًا في كتاب شمعون بيريز الذي يحمل العنوان ذاته: "الشرق الأوسط الجديد"، والذي نُشر عام 1996.

وما زال مصطلح "الجديد" يلاحق الشرق الأوسط مع كل حدث أو تطور هام؛ فعندما تم توقيع اتفاقيات التطبيع في عام 2020، والتي أُطلق عليها اسم "اتفاقيات إبراهيم"، قيل إن الشرق الأوسط يدخل حقبة جديدة. وعندما قامت إيران بضربة مباشرة لإسرائيل في نيسان/أبريل الجاري، والتي تعاون في صدها عدد من الدول العربية، تردد الحديث عن شرق أوسط جديد، يمكن أن تتطور فيه الأمور إلى تحالف إقليمي تقوده الولايات المتحدة، ويضم دولًا أساسية في حلف الناتو، وإسرائيل، وبعض الدول العربية، في مواجهة إيران ووكلائها في المنطقة.

يمكن التأكيد على أن الكثير مما ظهر لتجديد المنطقة بعد "طوفان الأقصى" ليس سوى استمرار لظواهر كانت موجودة بالفعل، وهذا لا يعني أننا لن نشهد تحولات نوعية مختلفة تغير الواقع الحالي، أو أن هذه الظواهر والعوامل لن تتفاعل فيما بينها لخلق واقع مغاير.

هذه هي الرواية التي يتم الترويج لها باستمرار مع كل تطور أو صراع كبير يضرب المنطقة، ولكن ماذا عن الروايات الأخرى؟

يمكن التأكيد أن معظم ما جاء لتجديد المنطقة عقب "طوفان الأقصى"، ليس إلا امتدادًا لظواهر كانت قائمة بالفعل، وهذا لا ينفي إمكانية حدوث نقلات نوعية متباينة تُغير الوضع الراهن، أو تفاعل هذه المعطيات والعوامل معًا لصنع واقع مختلف.

فالمنطقة لا تزال جزءًا لا يتجزأ من النظام الاقتصادي العالمي الذي يولي الأولوية للنيوليبرالية، بعد أن كانت الغلبة في القرنين التاسع عشر والعشرين للرأسمالية التجارية والصناعية. ولا تزال الدول العربية تعاني من أوجه قصور في مجالات حقوق الإنسان والمساءلة والشفافية وسيادة القانون، والاستبداد لا يزال يرعى التطبيع مع إسرائيل، ويقمع التأييد الشعبي للفلسطينيين، والمواطنون ما زالوا يعانون من تدني مستوى الأمن البشري في العديد من الجوانب، بدءًا من التعليم والرعاية الصحية ووصولًا إلى الحكم الرشيد، وتوفير الإمدادات الكافية من الغذاء والماء. ولا تزال هناك فجوة متزايدة بين توجهات الحكم وتطلعات شعوب المنطقة، والطائفية لا تزال مستشرية وتُستخدم في المعارك السياسية، والمشهد السياسي لا يزال ضعيفًا وغير قادر على التعبير عن مصالح الفئات الاجتماعية المختلفة، والثروات والفرص والدخول لا تزال محصورة بين الأثرياء، والفقر والتفاوت بين الجنسين ما زالا منتشرين ومتناميين، وعدم الاستقرار لا يزال هو السائد، واحتمالية تفشي التطرف العنيف لا تزال قائمة لأن الأسباب الجذرية التي تؤدي إليه لم تُعالج... إلخ.

وعليه، فإن الحرب المشتعلة على الفلسطينيين، وما يصاحبها من احتمالات التصعيد الإقليمي، ليست سوى مصدر قلق واحد (وإن كان رئيسيًا) في منطقة موبوءة باختلالات هيكلية، وعرضة لعدم الاستقرار، وانعدام الأمن، وصعوبة التنبؤ.

وبصرف النظر عما إذا كانت عبارة "الشرق الأوسط الجديد" تشير إلى شيء جديد وفريد تمامًا، أو إلى تبلور لديناميكيات سابقة، فإن ما يجب علينا فعله هو تطوير رؤية شاملة، يمكن من خلالها فهم تأثير "الطوفان" على تطلعات الشعوب العربية نحو التحرر السياسي والاقتصادي؛ بهدف إعادة صياغة علاقتها مع طبيعة الحكم القائم والقوى المهيمنة فيه بتحالفاتها الإقليمية والدولية، وهو ما تم التعبير عنه في مقال سابق على الجزيرة نت، بضرورة استعادة خطاب الاستقلال الوطني.

غزة هي العنوان

من الديناميكيات المستجدة التي نتجت عن "الطوفان" بشكل مباشر: الترابط والتداخل بين قضايا المنطقة، بحيث لا يمكن معالجة قضية بمعزل عن الأخرى، أو فصل المسارات عن بعضها البعض، كما كان مطروحًا في السابق.

  • إن مستقبل التطبيع بين الحكومات العربية والكيان الصهيوني مرتبط الآن بوقف العدوان على غزة، وإطلاق مسار موثوق ومحدد المدة لإعلان الدولة الفلسطينية.

لا يزال المنطق الأساسي لتطبيع العلاقات مع إسرائيل قائمًا بالنسبة لدول الخليج. ومع ذلك، فإن الغضب الشعبي، وتزايد الاهتمام بالقضية الفلسطينية، والثمن الدبلوماسي المتزايد الذي يجب أن تدفعه إسرائيل، سيؤثر بشكل كبير على مستقبل التطبيع.

فالأساس الذي تقوم عليه الصفقة الضمنية لدول الخليج لا يزال مطروحًا: التطبيع مع إسرائيل مقابل علاقات أفضل ونفوذ أكبر مع الولايات المتحدة، مما يسمح لها بالحصول على التزامات أمنية قوية، وتحسين الوصول إلى التكنولوجيا وأنظمة الدفاع الأمريكية المتطورة.

وفي حين أن منطق التطبيع لا يزال يشكل الدبلوماسية والرسائل والدوافع، يبدو أن حرب غزة قد غيرت حدود تقييم حساب التكلفة والعائد لتطبيع العلاقات، والثمن الباهظ الذي يجب أن تدفعه إسرائيل لصالح الفلسطينيين بشكل أساسي، وخاصة مقابل اتفاق مع المملكة العربية السعودية.

وترى دول الخليج التي انخرطت من قبل في التطبيع أن احتمالات إقامة علاقة ودية وملتزمة بالكامل مع إسرائيل تتقلص بشكل ملحوظ، في حين تتصاعد التكاليف المحتملة.

صحيح أن حرب غزة تؤثر على التطبيع في الوقت الحالي، لكن هذا التأثير – في تقديري – قصير الأمد. فقد أصبح التطبيع استراتيجية راسخة، والحديث يدور الآن حول الثمن الذي سيُدفع فقط، وليس حول المبدأ نفسه.

ومن المرجح أن تبقى مشاهد الدمار المروع والعدد الهائل من الضحايا في غزة راسخة في الوعي العام للشعوب العربية، مما يحول دون أي استئناف سريع لزخم التطبيع.

كما أشارت استطلاعات الرأي التي أجراها كل من الباروميتر والمؤشر العربي إلى أن الولايات المتحدة ستواجه صعوبة جمة في توسيع اتفاقيات أبراهام، نظرًا لتأثير حرب غزة العميق على المشاعر العربية تجاه إسرائيل والولايات المتحدة.

  • لقد أدت الحرب في غزة وتداعياتها إلى تعطيل خطط إنشاء الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، أو ما يُعرف بـ IMEC.

وتهدف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى التقريب بين الهند ومجابهة النفوذ الصيني المتنامي. ومن شأن هذا الممر أن يوفر دفعة قوية لاستراتيجية الهند للتحرر من الحصار الصيني، والتبوأ مكانة رائدة بين الدول النامية. وفي الوقت نفسه، تتبنى كل من الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية هذا الممر كجزء من مساعيهما للتحول إلى جسر اقتصادي حيوي بين الشرق والغرب.

وعلى الرغم من التحديات الهائلة التي يفرضها عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، فإن الحرب في غزة وتداعياتها لم تغير الأهداف الاستراتيجية والاقتصادية طويلة الأجل للمشاركين في هذا المشروع، إلا أن نتائجها ستلقي بظلالها على الصراع الدائر حول الممرات الدولية، ومستقبل خطوط الطاقة.

وفي المقابل، أدت الحرب الأوكرانية في عام 2020، وحرب غزة في عام 2023 إلى تسريع وتيرة تعميق التعاون والعلاقات الاقتصادية والعسكرية والسياسية والتكنولوجية بين كل من الصين وروسيا وكوريا الجنوبية وإيران. وتحدد هذه القوى الأربع بشكل متزايد مصالح مشتركة، وتوحد خطاباتها، وتنسق أنشطتها العسكرية والدبلوماسية. ويؤدي هذا التقارب إلى إنشاء محور جديد معادٍ للغرب، وهو تطور يُحدث تغييرًا جوهريًا في المشهد الجيوسياسي العالمي.

لا تبدو ثمة علاقة مباشرة بين هذا المحور وبين هجوم حماس على إسرائيل في 7 تشرين الأول/أكتوبر، إلا من ناحية تزويد المقاومة بالسلاح، غير أنه يُرجح أن الدعم المتزايد – من بعض دوله مثل روسيا وكوريا الجنوبية – قد جعل إيران أكثر استعدادًا لتفعيل وكلائها الإقليميين في أعقاب ذلك، وتوجيه ضربة مباشرة لإسرائيل لأول مرة.

  • لقد سمح "الطوفان" لطهران ووكلائها بمحاولة تلميع صورتهم السيئة في الصراعات الدائرة في سوريا والعراق ولبنان واليمن، وإعادة ترسيخ أنفسهم باعتبارهم "محور المقاومة"، مما يعزز نفوذهم في المنطقة وخارجها.

هذه الحقيقة لا تحجب ظهور تطورين هامين سيكون لهما بالغ الأثر في المستقبل:

  • الأول: ضرورة معالجة الصراعات والحروب الأهلية في الدول التي ينشط فيها هؤلاء الوكلاء، فبدون ذلك لا يمكن تحقيق الاستقرار المنشود للمنطقة بأسرها.

لقد أبرز "الطوفان" من جهة أهمية وجود فواعل من غير الدول في مواجهة إسرائيل وتحالفها مع الحكومات الغربية، ولكنه – من جهة أخرى – أظهر ضرورة تسوية الصراعات والحروب الأهلية التي اندلعت على مدار العقد الماضي.

  • الثاني: على الرغم من الدور الإيراني المباشر وغير المباشر في التصعيد ضد إسرائيل، فإن التطبيع السعودي – الإيراني قد نجا من هذا التصعيد، وحرص الطرفان على الإبقاء عليه وصيانته.

فبينما تتفق كل من المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة وإسرائيل في المخاوف بشأن إيران، إلا أن المملكة العربية السعودية وإيران تتشاركان – في الوقت نفسه – في تصور مفاده أن الاحتلال الإسرائيلي يمثل مشكلة ومصدرًا لعدم الاستقرار الإقليمي.

لقد تحدى التطبيع السعودي – الإيراني الفكرة السائدة بأن المواجهة مع إيران هي المحرك الرئيسي في حسابات السعودية فيما يتعلق بالتطبيع مع إسرائيل.

وقد جسَّدت الرياض وطهران الطموح المشترك لتقليل اعتمادهما على القوى الخارجية، وتعزيز نفوذهما الإقليمي واستقلالهما. وأدركتا دورهما الاستراتيجي في تعزيز الاستقرار لمنطقة تعاني من الاضطرابات الداخلية والإقليمية على مدار عقد أو يزيد.

  • لم تعد شرعية أنظمة الحكم العربية مقتصرة على تلبية احتياجات شعوبها للعيش الكريم فحسب، بل تتأثر بشكل مباشر بمواقفها من القضية الفلسطينية. لقد أدرك المواطن العربي أن هذه الأنظمة، كما هي مسؤولة عن معاناته في مختلف جوانب حياته، تتحمل أيضًا نتائج العجز والخذلان الذي حال دون نصرة الفلسطينيين، أو على الأقل التخفيف من مأساتهم.

هل بعد كل هذه التطورات نحن بإزاء شرق أوسط جديد حقًا، أم شرق أوسط قديم متجدد؟

أعتقد جازمًا أن نتائج حرب غزة ستكون من المحددات الأساسية في الإجابة على هذا السؤال.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة